أنا أيضًا يا سيد حسن أنقذتني كلمات الأغاني في أوقاتي الصعبة، وعلى وجه الخصوص أنقذتني أغنية شجر الليمون، كنت في سنوات الجامعة ولا أحب ما أدرس واستصعب مشوار الذهاب إلى الكورس وكنت أركب الميكروباص وأضحي بضعف ثمن الأجرة لحجز الكرسيين الأماميين حتى لا أضطر للاحتكاك بالعالم الخارجي-كان لا يزال ذلك متاحاً وقتها نسبة لسعر الدولار- أضع سماعات الأذن وأستمع إلى شجر الليمون على وضع التكرار وأنا حين أقول أنقذتني لا أقصد المبالغة.
ربما تبدو الكلمة درامية جدًا بالنسبة لمأساة طالبة لا تحب ما تدرس، لكن هذا كان الوضع فعلًا أحيانًا تقبض الحياة على صدرك وتمنعك من التنفس، ربما لا يستطيع الجميع استيعاب ذلك أو استيعاب أن سماع أغنية تعبر كلماتها عن حالك يمكن أن يجعلك تتحمل الحياة ليوم زيادة، لذلك كان مفهوم جدًا بالنسبة لي معاودة سماع عصام عمر في دور حسن لأغنية شجر الليمون بصوت والده كلما ضاقت به الدنيا.
يحكي الفيلم عن قصة حسن عامل الأمن الذي يسكن ووالدته في عمارة يهددهم صاحبها الميكانيكي للطرد لرغبته في عمل توسيعات لورشته، يقوم الكلب رامبو بمحاولة لحماية صديقه مما يوقعه في المتاعب ونرى خلال رحلة مدتها مائة دقيقة محاولة حسن لرد جميل صديقه رامبو ومحاولة حمايته.
لدي تعلق وهوس خاص بالعناوين الجديدة والمؤثرة لذلك أنا منذ المرة الأولى التي سمعت فيها اسم الفيلم (البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو) وأنا أردده باستمرار كأني أتذوقه، وأتعجب كيف استطاع طاقم الفيلم صياغة هذا الاسم الرائع، والحقيقة أن الفيلم الذي يعد التجربة الإخراجية الأولى لصاحبه خالد منصور لا يبحث فقط عن وسيلة لخروج السيد رامبو من مأزقه، بل يبحث عن مخرج للسينما المصرية وربما العربية بصورة أشمل للخروج من الركون أو منطقة الراحة إلى عالم أوسع، ويسعى لحجز مكان في المهرجانات العالمية ويعيد الاهتمام بالأعمال التي تهتم بالإنسان الطبيعي جدًا العادي جدًا الذي لا يسكن في إيجيبت ولا تدور أحداث حياته في كومباوندات.
عودة السينما المصرية لمهرجان فينيسا بعد 12 عام من الغياب إذ أن آخر الأفلام مشاركة في المهرجان فيلم «الشتا اللي فات» للمخرج إبراهيم البطوط عام 2012- هو انتصار كبير لأصحاب المشاريع الهامة ولسينما الهموم وربما تكون هذه التجربة محركًا وعاملًا حفازًا لآخرين من المهمومين بحياة الإنسان العادي جدًا للاستمرار في المحاولة رغم صعوبات العمل على مثل هذه الأفكار.
لا أنكر أنني في بداية الفيلم شعرت بالقليل من الملل، ثم ظننت أن ذلك ربما يرجع للإعلانات التي كانت تسبق عرض الفيلم على شاشة السينما، في إعلانات الأفلام الأجنبية هناك حركة وضوضاء وإزعاج وإثارة، وهذا الفيلم هادئ وبطيء مقارنة بهم ذكرني ذلك بفيديوهات منتشرة على تيك توك معنونة بـ«الحياة بدون أصوات رائجة» أو «Life Without Trending Sounds».
شريط الصوت بطلًا من أبطال القصة وله تأثير قوي جدًا على الحكاية، وربما يغفل الكثير من صناع الأفلام أهميته كبطل من أبطال الحكاية، وقد أجاد صناع الفيلم الاعتماد على عنصر مهم جدًا في صناعة شريط الصوت وهو الصمت، السكتات والوقفات في لحظات بعينها في السيناريو أضافت معاني ومشاعر عميقة جدًا للصورة.
يقول الناقد الأستاذ محمود عبد الشكور: «وينسى كثير من المخرجين أن شريط الصوت يتكون من عنصر هام جدًا جدًا هو الصمت، بالإضافة للعناصر المعروفة وهي الحوار والموسيقى والمؤثرات، الصمت هو الذي يعطى المكونات الأخرى تأثيرها ومعناها، وهو الأرضية التي تتحرك عليها، والمخرج الذي لا يستطيع أن يفهم أهمية الصمت في شريط الصوت سيفسِد كل شيء، وسيحول الفيلم إلى ضجيج مزعج مثلما يحدث في أفلام كثيرة بالمناسبة لولا لحظة صمت بين كل كلمة وأخرى من كلامنا العادي لما فهمنا حرفًا من بعضنا البعض، الصمت يعادل بالضبط المسافة البيضاء بين الكلمات المكتوبة، لولاها لضاع المعنى، واستحال التفاهم، نتيجة لاتصال الحروف نطقًا أو كتابة.»
ومع ذلك ورغم عدم اعتياد المشاهد على هذه الوتيرة المختلفة من سرعة جريان الأحداث وتركيبة شريط الصوت إلا أنك بعد عشر دقائق بالضبط تكون قد تورطت مع الحكاية تمامًا، حتى أني تعجبت حين توقف الفيلم فجأة للاستراحة لأني لم أشعر بمرور كل هذا الوقت.
ورغم احترافية اختيار العوامل التي تكون منها شريط الصوت وأصلية الفكرة وتماسك السيناريو، إلا أن الفيلم لم يكن ليخرج بهذا الإبداع بدون التكامل مع التمثيل واختيار الأبطال. فالمبدع عصام عمر قدم أداء استثنائيًا في دور حسن، من الصعب جدا الاقتناع أن هذا ليس عصام عمر على حقيقته هكذا يكون فن التجسيد، حين يتلبس الدور الممثل تمامًا فيصبح من الصعب فصل الشخصيتين عن بعض أو معرفة أين يبدأ الممثل وأين تنتهي الشخصية المرسومة.
نظرات عصام المقهورة، وقلة حيلته، وهو أنه أمام بلطجة الميكانيكي الذي يمثل الضغط المجتمعي في عشوائيات لا يحكمها القانون، شعوره بالضآلة أمام المسؤوليات التي فرضت عليه وضرورة ترميمه لتصدعات لم يحدثها هو، استحضار روح والده عبر سماع الرسائل الصوتية كأنه يبحث عن أي شيء يعيده إلى ما كان، قبل أن ينهد عالمه ويتداعى؛ بعد أن يدرك معنى الكلمة التي قالتها له والدته عن والده أنه «طفش» يبحث عن أي أمان، حتى لو زائف، لأنه مجرد إنسان بشري يخاف ويعجز ويشعر بالحاجة إلى الأمان، بل وحتى لديه الرغبة في المرح فيتراقص وكلبه على أضواء لمض ثلاجة ترعش في فرحة طفل صغير في يوم ميلاده رغم كل هذا لا تستطيع سوى التصديق أن هذه الشخصية حقيقية من لحم ودم وليست مجرد مشخصاتي يؤدي دوره في فيلم.
وأكمل هذه السيمفونية الرائعة التناغم بين الفنانة سماء إبراهيم وبين عصام عمر، تناغم يجعلك تشعر أنك ترى قصة حقيقية وكأنها تحدث حالًا في الواقع ليس سيناريو مكتوب ومعد مسبقًا وكذلك لا بد ألا نغفل الأداء الرائع لركين سعد في دور خطيبة حسن السابقة التي لا نعلم سبب انفصالها عنه علنيًا، لكنك تعرفها ضمنيًا من سير الأحداث أنه لا بد وأنها العوائق المادية.
وكذلك دور أحمد بهاء في دور كارم الميكانيكي الذي أجاد تمثيل الذكورية الهشة، والمخادعة التي تسبب المجتمع فيها عن طريق تأليه القدرة الجنسية للرجل، وأنه لا شيء يعيب الرجل ما دام قادرًا على فرض سيطرته الجنسية، وربما يتجسد ذلك بوضوح في غضبه حينما لم يستطع معاشرة عشيقته ورغبته في الانتقام من رامبو لكشفه ذكوريته الهشة.
ربما هناك انتصار آخر يجب أن نتحدث عنه وهو هدم أسطورة الأفلام المستقلة وعدم قدرة الجمهور العادي على تقبلها لأنه على الرغم من كون الفيلم يحمل معان ورمزيات وطبقات من السرد، ورغم كونه تعيس ومهموم إلا أنه حقق نجاحًا جماهيريًا فريدًا من نوعه وتلقاه الجميع بالترحاب والتأثر العميق، ربما ليس على نفس المستوى فهناك طبقات في الفيلم، لكن يستطيع المشاهد العادي جدًا أن يتأثر بالطبقة الأولى وهي حكاية مواطن يتعرض للظلم ويضطر للانفصال عن كلبه، ربما لن يركز الجميع في المفارقة بين كونه يعمل حارس أمن وكونه لا يستطيع حماية حرمة بيته ووالدته، أو أن تمزيقه لكلمة أمن على ظهر الجاكيت هي إشارة لغضبه واعترافه بالهزيمة أمام نفسه واعترافه أنه لا أمان في أي مكان داخل هذه القصة، لكن بالتأكيد سيفهم الجميع أنه لجأ إلى المسجد بعد تعرضه للظلم، لأن هذا ما نفعله جميعًا حتى أن الجميع يتداول لقطاته مع الجدار المنقوش في المسجد بتأثر عميق.
ربما طرأت في رأسي فكرة أن العالم في الحقيقة لا يدور بهذه الطريقة وأن الحصول على ملجأ لكلب ليس بهذه الصعوبة في وجود الفيسبوك والإنترنت، خصوصًا أن حسن لديه هاتف ذكي وأحداث الفيلم تدور في 2024. لكني عدت ففكرت أن البديهيات بالنسبة لي ربما لا تطرأ كفكرة عابرة في رأس آخرين أصلًا. وعدت ففكرت أن هذا عالم الكاتب، حتى لو غير منطقي فأنا مؤمنة بحملة د. أحمد خالد توفيق رحمه الله أن «السينما يمكن أن تختصر في جملة (دعني أخدعك.. دعني انخدع)» وأن هناك اتفاق ضمني غير معلن بين المؤلف والمشاهد على هذا وأنا موافقة تمامًا على هذا العالم وهذه الحبكة طالما وفرت لي سبل الاقتناع بها ومتعتني بالحكاية، حتى لو لا تخضع لقواعد المنطق.
# فن # سينما # أفلام عربية # السينما المصرية # منحة أبو الغيط للكتاب 2025